كتب ودراسات
إسماعيل الشطي يرصد الثقافة العربية في جذورها العريقة والتاريخية
ثمة ثقافة بدأت مع وصول الإنسان العاقل إلى الجزيرة العربية، وهو زمن بعيد جداً، لم تتوصل أدوات البحث والاستكشاف إلى تتبع بداياتها وتطوراتها وتقلباتها حتى الآن، الأمر الذي جعل استقصاء جذور الثقافة في المنطقة العربية مسألة تاريخية شديدة التعقيد، نظراً إلى تعدد المصادر، بدءاً من المصادر اليونانية والرومانية، مروراً بالمصادر اليهودية والمسيحية، وانتهاءً بمصادر عصر التدوين العربية.
يتصدى لهذه المهمة الباحث الكويتي إسماعيل الشطي في كتابه “جذور الثقافة في المنطقة العربية” (أربعة أجزاء، مركز دراسات الوحدة العربية 2020)، وعمد إلى تحديد النطاق الجغرافي للثقافة العربية بـ”الجزيرة العربية”، بتعريفها القديم لأنها من وجهة نظر القدماء محاطة بالمياه من كل جانب. ففي جنوبها بحر العرب، وفي شرقها نهر دجلة، وفي شمالها البحر الأسود والبحر المتوسط، وفي غربها نهر النيل.
المصادر التقليدية الكلاسيكية تشكل جزءاً من منهجية البحث، بما فيها أدبيات عصر التدوين الإسلامي التي يزخر بعضها بالروايات غير الموثقة والأساطير المتناقلة والخرافات الدخيلة، إلا أن من الممكن استلال الكثير من الحقائق بين أكوام النصوص والمواضيع، مما يساعدنا في فك رموز الماضي.
الوجود الراسخ
ينطلق الكتاب من مسلمة أن الأرض العربية عاش عليها أجدادنا، ولم يهجروها قط. كانوا موجودين هنا قبل التسميات الأنثروبولوجية والإثنية والكلاسيكية والدينية، حتى قبل أن يطلق عليهم لفظ عرب منذ عشرات آلاف السنين. وقد حاول المؤلف أن يستكشف ثقافتهم وتصوراتهم عن الكون والحياة والإنسان، فضلاً عن منظومات العقائد والقيم والأخلاق والشرائع والفنون والآداب والعادات عندهم، ومرجعياتهم الذهنية ونظمهم الفكرية ومحاولاتهم فهم وجودهم والتعبير عنه بوسائل التعبير المتاحة كلها، لكن محاولة الاستكشاف هذه، تصطدم بمعوقات عدة، أبرزها ضآلة المعلومات المتعلقة بالأزمنة الموغلة في القدم والتراث الأركيولوجي الذي يقرأ تاريخ المنطقة وفق تقسيمات سايكس بيكو، وكأن تلك التقسيمات كانت قائمة منذ آلاف السنين، فيما أخضع كل حضارة من حضارات المنطقة إلى تقسيم داخلي، كأنها حضارات لشعوب بتراء، لا عقب لها ولا خلف. ومن المعوقات الروايات السردية السائدة التي فرضتها السلطات القائمة، والتي أخضعت المعارف والتاريخ لما يتفق مع مصلحتها.
تتتبع فصول الكتاب نشوء الثقافة في المنطقة العربية من جذورها العتيقة، تغوص في أعماق الزمان لمواكبة مسيرتها، لتصل إلى ما انتهت إليه، بغية كشف التاريخ الحقيقي لسكان المنطقة العربية ودورهم الرسالي تجاه الإنسانية، وحثهم على الاضطلاع بهذا الدور من جديد مهما كان مشهد الحاضر معتماً.
يقابل المؤلف المعلومات الأركيولوجية بما يوافقها في المصادر الكلاسيكية، سواء ما ورد في مؤلفات اليونان والرومان أو في الكتب الدينية، مثل التوراة والإنجيل والقرآن، مسلطاً الضوء على طبيعة الرسالة الحضارية لأهل المنطقة التي ارتكزت على توسعة المعمورة وبناء المجتمعات الإنسانية المتحضرة في مدن عامرة. ويتناول معوقات الانتشار الحضاري المتمثلة بالمخزون السكاني الهائل للمتوحشين الذين يحيطون بالمناطق المعمورة، وغزوهم البربري للسيطرة على معظم هذه المناطق.
الحضارة الراسخة
يقدم الكتاب الحضارة الهلينية باعتبارها نتاجاً لسكان المنطقة الهاربين من الغزو الفارسي والمستقرين في بحر إيجه وجبال اليونان، بحيث نقلوا ثقافتهم وآدابهم وفنونهم وثرواتهم إلى تلك البقاع، ويكشف الإنتماء الآسيوي لغالبية أعلام الحضارة الهيلينية، ذاهباً إلى أن الإمبراطورية الرومانية التي حكمت عالمها من أوروبا، بقيت تحكمه طوال وقتها بثقافتها المشرقية. وإذ عرض لثقافة سكان المنطقة قبل بدء التاريخ الميلادي، افترض أنها كانت ثقافة مشتركة، ذات تصور متقارب للإله والكون والحياة والإنسان، وذات منظومة قيمية وأخلاقية متماثلة مع أساليب تفكير متشابهة، حتى غدت أهم أواصر الوحدة بين شعوب المنطقة.
في تناوله للثقافة الدنيوية، يعرض الشطي للفطرة الاجتماعية السائدة لسكان المنطقة العربية، فيلاحظ انحياز هؤلاء إلى العلاقات الأسرية والعائلية والقبلية ونزعتهم إلى تنظيم السلطة وصنع التشريعات والقوانين المنظمة لعلاقات الأفراد بالسلطة والمجتمع، وكذلك إنتاج الفكر والحكمة ونظم الأخلاق والارتقاء بتذوق الفنون كلها: اللغة والغناء والموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية والأزياء وأصول الطهو، عطفاً على حذقهم في العلوم والتكنولوجيا، ومجالات العد والقياس، ومجالات الرصد والاستنباط والاستقراء، ونبوغهم في الهندسة المعمارية وهندسة الري والزراعة وبناء السفن.
خصص المؤلف حيزاً واسعاً لتصحيح صورة العرب قبل الإسلام في مواجهة الشعوبيين الذين كانوا يخوضون حرباً ثقافية ضد العروبيين، بالتركيز على صورة الأعرابي الصحراوية الجلفة، بينما كان السلفيون يركزون على صورة العربي الأمي والجاهلي الوثني، والتوراتيون يحاولون اختطاف التاريخ الديني والثقافي من الجزيرة، وغرسه بين النيل والفرات، بحيث يغدو التاريخ العربي أجوف، لكن المصادرالكلاسيكية القديمة زاخرة بالأخبار والشواهد والأدلة التي تحكي قصة مغايرة، فيما يقدم القرآن الكريم أصدق وثيقة تصور لنا العرب وثقافتهم في زمن الرسالة الإسلامية.
يرى المؤلف أن مرويات عصر التدوين تقدم صورة نمطية مشوهة عن سكان شبه الجزيرة العربية تختلف عن الصورة التي تقدمها المصادر الأخرى، وبالأخص القرآن. فقد أطلقت تلك المرويات على التاريخ العربي قبل الإسلام صفة “الجاهلية”، متخذة من بعض الظواهر المتخلفة دليلاً لتعميمها على تاريخ المنطقة كله، واصفة ديانة العرب قبل الإسلام بالوثنية، ومستواهم التعليمي بالجهل والأمية، ومستواهم الاجتماعي بالتوحش والبداوة والهمجية، ومستواهم الخلقي بالانحطاط، زاعمة تعرض المرأة العربية لأبشع صنوف العذاب والإهانة والتحقير، وحرمانها من الميراث ومعاملتها كسلعة وإكراهها على الزواج.
الصورة النمطية
هذا الكلام المشبع بكراهية العرب مارسه الشعوبيون، إذ غرسوا روايات وقصصاً تكرس صورة العربي الجاهلي الشرير الهمجي الأهوج، غير أن الحقيقة تختلف تماماً، فصور العرب تختلف تاريخياً وجغرافياً منذ ظهورهم على مسرح الأحداث باسم “عرب”. وهكذا، فالعرب في وسط شبه الجزيرة العربية يختلفون عن العرب في محيطها، والعرب في مدنهم وقراهم يختلفون عن العرب في مراعيهم وفيافيهم، وصورة العرب في المصادر الرومانية والبيزنطية قبل العصر الرابع الميلادي غير الصورة في مصادر الحقبة التي تلته. اختزال كل ذلك إلى صورة نمطية سلبية معممة واحدة، هو ضرب من التزوير التاريخي. وما زعمه عصر التدوين عن عزلة جزيرة العرب وجهلهم وهمجيتهم في الجاهلية لا يؤيده القرآن الذي خالف كثيراً مزاعم هذا العصر، فلا نصوص تفضي بأن البيئة التي ظهر فيها القرآن بيئة بداوة، بل إن مفردات مثل الصحراء والفلاة والفيافي لا تكاد تظهر بين ألفاظ القرآن، بينما ينضح الخطاب القرآني بمفردات الحضارة والمدنية، حيث ترد ألفاظ المدينة والمصر والقرية والدار والحاضرة أكثر من مئة وعشرين مرة، كما ترد مكونات المدينة من الأسواق والسكن والبيت والقصر والبروج والصروح والأثاث بصورة بارزة. وتتردد في القرآن ألفاظ الأمة والملة والناس أكثر كثيراً من ألفاظ القبيلة والشعب والعشيرة، ويتردد لفظ الناس وحده أكثر من مئتين وواحدة وأربعين مرة، بينما لا نجد شيئاً يشير إلى شيخ القبيلة أو زعيمها.
ولا يتحدث القرآن عن الأراضي القاحلة، بل يستخدم ألفاظ الجنة والحدائق والروضة والشجر والثمر والفواكه والريحان والنهر والينبوع واليم، وسوى ذلك مما يدل على بيئة حضرية مدنية. وترد في القرآن مفردات ذات صلة بالحياة الثقافية مثل تفكر وجادل وحاجج، مما يؤكد أكذوبة أمية العرب التي نسجها الشعوبيون. أما دور المرأة في المجتمع فلم يكن مستنكراً أو مهضوماً، فقد أورد القرآن أمثلة عن النسوة وتأثيرهن في الحياة العامة.
وتبقى الصورة التي تقدمها المصادر القديمة – الآشورية والإغريقية والرومانية – أكثر صدقاً من الصورة التي تقدمها مصادر عصر التدوين التي صنعت صورة نمطية موحدة لعرب الجاهلية. ودلت المصادر القديمة على ثراء معظم العرب، وتحدث بعض مؤرخيها عن العرب بإعجاب شديد، فأشاد بالأخلاق العربية، كما تحدثت الكتب الكلاسيكية عن وجود علاقات قديمة بين سواحل بلاد العرب وبلاد اليونان والرومان، فضلاً عن هذه الصورة المشرقة التي تؤكدها المصادر القديمة، ثمة ما تؤكده اللغة العربية، فثراؤها ليس مرجعه حياة الصحراء، إنما مرجعه الحضارات التي عاشت على الأرض العربية قبل آلاف السنين، وتفاعل أهل المدن بعضهم مع بعض من خلال التجارة والأسواق، وهو ثراء جاء من مناطق متطورة ثقافياً ودينياً وعسكرياً وسياسياً، ومن مدن مفعمة بالحضارة والمدنية.
في استنتاجاتنا العامة والنهائية يمكن القول إن الكتاب بأجزائه الأربعة أسهم إسهاماً جدياً في اكتشاف الثقافة العربية من جديد، والتعرف إلى مكوناتها وسماتها ومقوماتها المشتركة، وتتبع مآلاتها، مقدماً قراءة نقدية للسرديات التاريخية السائدة في المنطقة، بهدف تنقيتها من تأثير الانحيازات المعرفية المختلفة. وقدم دفاعاً ثقافياً وتاريخياً عن العرب وتمدنهم ودورهم الرائد في الحضارة الإنسانية، ضد المتطاولين على حضارتهم ومكانتها المميزة من موقع استشراقي استعلائي، تصدى له قبل أكثر من قرن جرجي زيدان في كتابه الموسوعي “تاريخ التمدن الإسلامي”، ما يؤكد أن المواجهة مع فكر الاستشراق لا تزال حادة ومفتوحة.
المصدر: اندبندنت عربية