التعليق على الصورة، الكاهن جون ميتشل، الذي استعان بقوانين نيوتن، واستدل بشكل مدهش على وجود الثقوب السوداء النجمية (رسم توضيحي بريشة بِن بلاتس-ميلز، متأثرا بالشاعر والرسام الإنجليزي الشهير وليام بليك)
في عام 1724 بقرية إيكرينغ بإنجلترا، ولد جون لأبٍ كاهن هو غلبرت ميتشيل. وفي البيت تلقى جون مع أخيه وأخته الصغيرين تعليمه. ومنذ نعومة أظفاره، لفت جون الأنظار بسرعة بديهته.
وفي ذلك، يثبّت المؤرخ راسل مكورمماش، مقولة صديق للعائلة بحق جون وصفه فيها بأنه “صاحب أصفى ذهن قابله في حياته”.
وكان الوالد غلبرت يقيم وزناً لاستقلالية الفكر، كما كانت العائلة تُقدّم العقل على النقل، وتُعلي من قيمة التفكير.
ولما حان وقت التحاق جون بالجامعة، كان خيار عائلة الكاهن هو جامعة كامبريدج، حيث رسّخ إسحاق نيوتن مذهب الاستدلال بالعلم على وجود الدين.
وكان يرتاد جامعة كامبريدج في ذلك الحين نحو 400 طالب، وكانت الجامعة تمثل مضماراً مثالياً للنقاش الفكري. وفي كمبريدج قضى جون ميتشل قرابة العشرين عاماً متنقلاً من صفوف المتعلمين إلى كراسي المعلمين.
وفي كامبريدج، درس جون ميتشل علوم اللغة العبرية واليونانية، وعلوم الرياضيات، واللاهوت والجيولوجيا.
وكان ميتشل شغوفاً بالتجريب، وبالوقوف بنفسه على صناعة أجهزته وأدواته التي يستخدمها في البحث العلمي.
وفي تلك الأثناء بكامبريدج، ظهرت قدرة جون ميتشل على التنبؤات العلمية.
وفي عام 1750، نشر ميتشل بحثاً عن المغناطيسية، مميطاً اللثام عن قانون جديد واحد على الأقل هو “قانون التربيع العكسي”، والذي مهّد بدوره الطريق أمام استخدام المغناطيس في النقل البحري.
وفي عام 1760، نشر ميتشل بحثاً عن ميكانيكا الزلازل، متناولاً بالوصف طبقات الأرض المعروفة الآن والتي تشكل “القشرة الأرضية”، متناولاً بالشرح كيف تتحرك الهزات الأرضية عبر تلك الطبقات في صورة أمواج.
وفي ذلك البحث، تحدث ميتشل عن إمكانية أن تتمخض الزلازل تحت سطح البحر عن موجات مدّ كاسحة “تسونامي”.
وفي عام 1764، غادر جون ميتشل جامعة كامبريدج، ليتزوج من سارة وليامسون، ويتجه إلى العيش في قرية ثورنهيل بمقاطعة يوركشير، وهناك في يوركشير، اقتفى جون ميتشل آثار أقدام أبيه وأصبح كاهناً.
وفي أثناء عمله بالكنيسة، لم تنقطع المراسلات بين ميتشل وفلاسفة ومفكري عصره، ومن بينهم الموسوعيّ بنجامين فرانكلين.
ومن منظور أبناء القرن الحادي والعشرين، تعتبر فكرة اشتغال قسيس في كنيسة بالعلوم الفيزيائية والفلسفية فكرة مثيرة للدهشة بعض الشيء.
لكن الحقيقة أن معظم مفكري القرن الثامن عشر، ومن بينهم جون ميتشل، لم يكونوا يفرّقون بين الدين والعلم.
صحيحٌ أن اختراع التلسكوب في بدايات القرن السابع عشر كان له أثر فلسفي مزلزل في عموم أوروبا، حيث جعلت فكرة “لا محدودية العالم” تغزو أفكار الكنيسة.
لكن بالنسبة لمفكرين من أمثال جون ميتشل، لم تُطح مثل هذه الثورة العلمية بفكرة الإيمان بالله من قلوبهم، وإنما جددت لديهم فكرة مفادها أن قوانين الطبيعة ما تزال تدور في فلك القوانين الإلهية.
وكما صاغها إسحاق نيوتن في عام 1704 بالقول إن “واجبنا تجاه الله، إضافة إلى واجباتنا تجاه أحدنا الآخر، ستتبدى لنا في ضوء الطبيعة”. وعلى هذا المنهج سار جون ميتشل.
وفي ذلك يقول المؤرخ راسل مكورمماش عن ميتشل: “كانت حقائق إيمانه على وفاق مع حقائق الطبيعة”.
وعليه، إلى جانب واجباته ككاهن في كنيسة، جعل ميتشل يركز اهتمامه تدريجياً على علم الكونيات – وتحديداً قانون الجاذبية.
هذا التخصص بعينه هو الذي سيشهد خروج ميتشل بنتائج علمية ستظل يُنظَر إليها حتى بعد مرور وقت طويل من وفاة صاحبها على أنها “نبوءة ثورية”.
صدر الصورة، GETTY IMAGES
التعليق على الصورة، على غرار ميتشل، لم يكن إسحاق نيوتن -المبيّن في الصورة بإحدى كنائس لندن- يفرّق بين الإيمان والعلم
صنع جون ميتشل بنفسه تلسكوباً عاكساً يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار (10 أقدام).
وفي عام 1767، كان ميتشل أول من سخّر عِلم الإحصاء الرياضي لدراسة علم النجوم المرئية، موضحاً أن نسَق عناقيد النجوم ليس عشوائياً وإنما هو خاضع لقوانين الجاذبية.
ثم عكف ميتشل على ابتكار ما يُعرف باسم “ميزان الالتواء”، في محاولة لاحتساب كثافة كوكب الأرض، لكنه مات قبل أن يستفيد من الجهاز، غير أن صديقه الفيلسوف والعالِم الإنجليزي هنري كافنديش، أكمل التجربة بنجاح في عام 1797.
ولا يزال جهاز ميتشل (ميزان الالتواء) يُستخدم حتى يومنا هذا في قياس ما يُعرف باسم “ثابت الجاذبية” أو قوة الجاذبية الموجودة في العالم.
الكشف عن الثقوب السوداء النجمية
صدر الصورة، GETTY IMAGES
التعليق على الصورة، هذا الرسم يعود إلى القرن الـ 16، وفيه يظهر رجل عجوز بينما ينظر فيما وراء كوكب الأرض ليرى العالم الأكبر
في عام 1783، نشر جون ميتشل بحثاً اشتمل على فرضية تُدلّل أكثر من أيّ مما جادت به قريحته على العبقرية.
وعلى ضوء مبادئ نيوتن، بدأ ميتشل بحثَه بمحاولة شرح الطريقة التي تتكون بها كثافة النجوم، ثم بعد ذلك شرع ميتشل في تفسير كيف أن سلوك الضوء تحت أثر الجاذبية يمكن أن يرشد إلى طريقة لاحتساب كثافة النجوم.
وعلى ضوء مبادئ نيوتن أيضاً، استنتج ميتشل أنه من الممكن أن تغطّي قوة جاذبية الأجرام النجمية الضخمة على أشعتها الضوئية؛ وفي هذه الحال يمكن أن تهرب الأضواء من تلك النجوم الضخمة، وربما تشق طريقها إلى كواكب قريبة لكنها (هذه الأضواء) قد ترتد إلى تلك النجوم الضخمة عبر قوانين الجاذبية.
ولما كانت أضواء هذه النجوم الضخمة لا تصل إلى أنظارنا، لم يكن لدينا معلومات، لكن كان لا يزال بإمكاننا اقتفاء الأثر عبر ملاحظة سلوكيات غير مألوفة في مدارات الأجرام النجمية الأخرى القريبة. هذه السلوكيات غير المألوفة تنجُم بدورها عن جاذبية تلك النجوم المحتجبة عن أنظارنا (نظراً لهروب أشعتها الضوئية).
هذه الفرضية من جون ميتشل تمثّل الصورة الأقرب لفكرة الثقوب السوداء النجمية في ضوء مبادئ نيوتن.
وقد ظلت فرضية جون ميتشل هذه حبيسة الأدراج يلفّها الغموض حتى مجيء النصف الثاني من القرن العشرين ليُعاد إلقاء الضوء عليها واكتشاف ما انطوت عليه من عبقرية.
وفي 21 أبريل/نيسان من عام 1793، في كنيسة ثورنهيل، مات جون ميتشل عن عمر ناهز 68 عاماً.
وكان لجون ميتشل مجايلون من العلماء والمفكرين الذين أصاب معظمهم شهرة تفوق شهرة ميتشل. والسبب في ذلك يرجع إلى زُهد الأخير في الشهرة مؤْثراً عليها حرية الفكر، هذا فضلاً عن اختصاص أبحاثه بعلوم غير شعبية، إذا جاز التعبير.
وكما قال عالم الفلك العربي ابن الهيثم، قبل سبعة قرون من مجيء نيوتن، فإن “الباحث عن الحقيقة ليس هو من يدرس كتابات القدماء على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من يُعلّق إيمانه بهم، ويتساءل ما الذي جناه منهم؟ هو الذي يبحث عن الحجة، ولا يعتمد على أقوال إنسان طبيعته يملؤها كل أنواع النقص والقصور”.
استقلالية ميتشل أتاحت له حرية أخرى أساسية للتفكير الأصلي: حرية الخيال. وفقاً لما ذكره مكورمماش.
واختار ميتشل علم الفلك تحديداً، لأنه كان يقدم آفاقاً جديدة للنظرية. في شغفه بالخيال العلمي، تنبأ ميتشل بالإبداع الذي يتمتع به علماء الفيزياء النظرية اليوم.
كما قال أينشتاين في عام 1929، “الخيال يحيط بالعالم.”
المصدر : بي بي سي