أخبارالتاريخ الاسلامي
ابن سينا: عظيم الطب والفلسفة في التاريخ الإسلامي
في 21 يونيو/حزيران من عام 1037 توفي ابن سينا الطبيب والفيلسوف المسلم الأكثر شهرة وتأثيراً في العصور الوسطى، وذلك بحسب دائرة المعارف البريطانية.
ولد الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي المشهور بـ “ابن سينا” في عام 980، بالقرب من بخارى (الآن في أوزبكستان) وتوفي عام 1037 في همدان بإيران، وقد اشتهر بشكل خاص بمساهماته في مجالات الفلسفة الأرسطية، والطب. ألف كتاب “الشفاء”، وهو موسوعة فلسفية وعلمية واسعة النطاق، وكتاب “القانون في الطب”، وهو من أشهر الكتب في تاريخ الطب.
عُرف باسم الشيخ الرئيس وسماه الغربيون بأمير الأطباء وأبي الطب الحديث في العصور الوسطى. وتقول دائرة المعارف البريطانية إن منجز ابن سينا لم يظهر فجأة على المسرح الفكري الإسلامي حيث يُعتقد أن الكاتب المسلم ابن المقفع، أو ربما ابنه، هو من أدخل المنطق الأرسطي إلى العالم الإسلامي قبل ابن سينا بأكثر من قرنين. كما كان هناك الكندي، وهو أول فيلسوف إسلامي، فضلا عن العالم الفارابي، والذي تعلم ابن سينا من كتاباته الميتافيزيقا عند أرسطو . ومع ذلك، يظل ابن سينا هو الأعظم بين هؤلاء اللامعين.
النشأة والتعليم
وفقًا لرواية ابن سينا الشخصية عن حياته، كما ورد في سجلات تلميذه الجوزجاني، فقد قرأ وحفظ القرآن بأكمله في سن العاشرة كما حفظ قصائد أدبية باللغتين العربية والفارسية. وقد تعلم في صباه مبادئ المنطق وأخذ ابن سينا على عاتقه دراسة المؤلفين الهلنستيين. وفي سن السادسة عشرة، تحول ابن سينا إلى الطب.
وعندما مرض سلطان بخارى بمرض حير أطباء البلاط، استدعي ابن سينا لعلاجه. وعندما شُفي السلطان وتعبيراً عن الامتنان، فتح السلطان له المكتبة السامانية السلطانية، وهو كرم قدّم لابن سينا وفرة حقيقية من العلوم والفلسفة.
بدأ ابن سينا مسيرته المذهلة في الكتابة عندما كان في الحادية والعشرين من عمره ويوجد اسمه على حوالي 240 كتاباً. وقد كتب في العديد من المجالات، بما في ذلك الرياضيات، والهندسة، وعلم الفلك، والفيزياء، والميتافيزيقا، وفقه اللغة، والموسيقى، والشعر.
وغالباً ما كان ابن سينا عالقاً في الصراع السياسي والديني العاصف في ذلك العصر مما دفعه لكثرة التنقل، ومما لا شك فيه أن حاجته إلى التنقل قد عرقلت أبحاثه.
وفي أصفهان، في ظل حكم علاء الدولة وجد ابن سينا الاستقرار والأمان الذي استعصى عليه. وإذا كان من الممكن القول أن ابن سينا كانت له أيام ذهبية ، فقد حدثت خلال فترة وجوده في أصفهان، حيث كان معزولاً عن المؤامرات السياسية ويمكنه عقد مجلس علمائه الخاص كل يوم جمعة، ومناقشة الموضوعات التي يريدها. وفي هذا المناخ الصحي، أكمل ابن سينا كتاب الشفاء، وكتاب “نامة علائي” في المنطق.
تأثيره في الفلسفة والعلوم
في أوائل القرن العشرين، رأى إدوارد ج. براون، المستشرق البريطاني والمرجع المشهور فيما يتعلق ببلاد فارس، أن “ابن سينا كان فيلسوفاً أفضل منه كطبيب، لكن الرازي طبيب أفضل منه كفيلسوف”، وهو استنتاج تكرر ذكره كثيراً منذ ذلك الحين.
لكن الحكم الذي صدر بعد 800 عام يطرح السؤال التالي: بأي مقياس معاصر يتم تقييم “الأفضل”؟ هناك حاجة إلى عدة نقاط لجعل وجهات النظر الفلسفية والعلمية لهؤلاء الرجال مفهومة اليوم.
كانت ثقافتهم هي ثقافة الخلافة العباسية (750-1258)، وهي السلالة الحاكمة الأخيرة التي قامت على مبادئ المجتمع الإسلامي الأول ( الأمة ) في العالم الإسلامي. وهكذا، كانت معتقداتهم الثقافية بعيدة عن معتقدات الغرب في القرن العشرين ومعتقدات أسلافهم الهلنستيين.
كانت نظرة أولئك العلماء المسلمين للعالم تتمركز حول الله وليس مركزية الإنسان وهو منظور معروف في العالم اليوناني الروماني. وكان علم الكونيات الخاص بهم عبارة عن وحدة من العوالم الطبيعية مع ما وراء الطبيعة.
وقد كان مركزية علم الكونيات عند ابن سينا هو الله باعتباره الخالق، والسبب الأول الذي انتقل الذكاء إلى البشر من خلال نوره الإلهي، وهي صفة رمزية مستمدة من القرآن.
وأهم أعمال ابن سينا في الفلسفة والعلوم هو كتاب “الشفاء”، وهو موسوعة من 4 أجزاء تغطي المنطق والفيزياء والرياضيات والميتافيزيقا. وبما أن العلم كان مساوياً للحكمة، فقد حاول ابن سينا وضع تصنيف موحد وواسع للمعرفة.
فعلى سبيل المثال، في قسم الفيزياء، ناقش الطبيعة في سياق 8 علوم رئيسية، بما في ذلك علوم المبادئ العامة، والأجرام السماوية والأرضية، والعناصر الأولية، والأرصاد الجوية، وعلم المعادن، وعلم النبات، وعلم الحيوان، وعلم النفس (علم الروح) .
أما العلوم الثانوية كما حددها ابن سينا فتشمل الطب وعلم التنجيم، وعلم الفراسة، وتفسير الأحلام، والكيمياء. وتنقسم الرياضيات لديه إلى 4 علوم رئيسية هي الأعداد والحساب، والهندسة والجغرافيا، وعلم الفلك، والموسيقى. وكان ابن سينا ينظر إلى المنطق باعتباره أداة للفلسفة.
وقال عنه المؤرخ البلجيكي جورج ساتون: “إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يعادله في ذكائه ونتاجه الفكري الذي يعد مرجعاً في الفلسفة في القرون الوسطى”.
تأثيره في الطب
على الرغم من التقييم العام الذي يؤيد مساهمات الرازي الطبية، فقد فضل العديد من الأطباء تاريخياً ابن سينا بسبب تنظيمه ووضوحه. والواقع أن تأثيره على كليات الطب الكبرى في أوروبا امتد إلى أوائل العصر الحديث. وأصبح ” القانون في الطب” هو المصدر البارز، بدلاً من كتاب “الحاوي” للرازي.
وكان ولع ابن سينا بالتصنيف واضحاً على الفور في كتاب القانون، المقسم إلى 5 كتب. ويحتوي الكتاب الأول على 4 رسائل، وتتناول الأولى علم التشريح، فيما تتناول الرسالة الثانية مُسببات الأمراض والأعراض، بينما تتناول الثالثة النظافة والصحة والمرض وحتمية الموت، والرسالة الرابعة حول علم تصنيف الأمراض ونظرة عامة على العلاجات الغذائية.
ويتضمن الكتاب الثاني من القانون “المواد الطبية”، ويغطي الكتاب الثالث “الأمراض من الرأس إلى أخمص القدمين” ويبحث الكتاب الرابع “الأمراض التي لا تختص بأعضاء معينة” (الحمى وغيرها)، والكتاب الخامس يقدم “الأدوية المركبة”. ويقدم كل من الكتابين الثاني والخامس خلاصات وافية مهمة لحوالي 760 دواءً بسيطاً ومركباً.
وكان اقتراح ابن سينا باستخدام النبيذ لتطهير الجروح شائع الاستخدام في أوروبا في العصور الوسطى. كما وصف حالة تعرف باسم “النار الفارسية” ( الجمرة الخبيثة)، كما ربط بشكل صحيح بين التغير في البول ومرض السكري.
وقال المؤرخ الطبي مايكل ماكفو إن أطباء العصور الوسطى بذلوا جهوداً كبيرة لبناء ممارساتهم على أدلة موثوقة. وهنا، لعب ابن سينا دوراً رائدًا كشخصية بارزة حيث أثر على أطباء القرن الثالث عشر.
وقد أعطى ابن سينا، وبدرجة أقل الرازي، للعديد من المعالجين البارزين في العصور الوسطى إطاراً للطب باعتباره علماً تجريبياً متكاملاً لما أسماه ماكفو “المخطط العقلاني للطبيعة”.
ويقول موقع مكتبة قطر الوطنية عن ابن سينا إنه أول من أدخل العلاج النفسي إلى عالم الطب، بملاحظاته الطبية الدقيقة السابقة لعصره، ودراساته للاضطرابات العصبية، إذ كان يعالج مرضاه عن طريق التحليل النفسي. واتبع ابن سينا في الفحص والتشخيص والعلاج نفس الأساليب الحديثة المتبعة الآن عن طريق جسّ النبض، والقرع بالأصابع فوق جسم المريض لتحديد بعض الأمراض الباطنية، والاستدلال بالبول والبراز وبعض تلك الأساليب التي اتبعها حينذاك نُسبت لاحقاً لأطباء جاءوا بعده بقرون.
واستطاع ابن سينا أن يحقق بعض أهم الاكتشافات الطبية مثل الأمراض المعدية، وكيفية انتقال العدوى، وذكر أن الماء والهواء قد يحتوي على حيوانات صغيرة جداً لا ترى بالعين المجردة هي التي تسبب بعض الأمراض. وهو الأمر الذي أثبته العلماء المتأخرون بعد عدة قرون من بعده وذلك بعد اكتشاف المجهر الذي لم يكن متاحاً له وقتها.
وكتب ابن سينا عن أهمية البيئة والأمراض الناجمة عن التلوث البيئي، ومن المدهش أنه كان يمارس الطب التجريبي في ذلك الزمان بشكله الحالي، إذ كان يبتكر الأدوية ويجربها على الحيوان أولاً فإن أثبتت فعاليتها يعالج بها مرضاه. وهو أول من وصف مرض الالتهاب السحائي، ووصف السكتة الدماغية والشلل الناجم عن سبب داخلي في الجسم.
لقد ظل كتابه “القانون في الطب”، ولسبعة قرون متتالية، المرجع الرئيسي في علم الطب حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوروبا. وقد أطلق الغربيون عليه لقبي “أمير الأطباء” و”أبو الطب الحديث” في العصور الوسطى.
الوفاة
أثناء وجوده بصحبة علاء الدولة، أصيب ابن سينا بالمغص وداء الحبس (الإمساك). ولقد عالج نفسه باستخدام الإجراء المتمثل في 8 حقن شرجية من بذور الكرفس في اليوم الواحد.
وأشارت دائرة المعارف البريطانية إلى أنه ربما يكون قد تعرض للتسمم من خلال تغيير المادة المُستخدمة إما عن غير قصد أو عن قصد من قبل أحد المرافقين .
وبات ابن سيناء إثر ذلك ضعيفاً لكنه لم يعرف الكلل، رافق علاء الدولة في مسيرته إلى همدان. وفي الطريق تدهورت حالته الصحية ومات في شهر رمضان سنة 428 هجرية (1037 ميلادية) عن عمر يناهز 57 عاماً.
المصدر : BBC NEWS